رؤساء جنوب السودان عبر التاريخ
منذ إعلان استقلال جنوب السودان في التاسع من يوليو عام 2011، دخلت هذه الدولة الوليدة المشهد الدولي كأحدث دولة مستقلة في القرن الحادي والعشرين، بعد عقود طويلة من الحروب الأهلية والصراعات السياسية التي مزقت السودان قبل الانفصال. ومع أن تاريخ جنوب السودان كدولة ذات سيادة لم يتجاوز حتى الآن عقداً ونصف، فإن قيادتها السياسية شهدت مراحل متعددة من التشكل والتحديات والاضطرابات، التي لعبت فيها شخصية الرئيس دوراً مركزياً.
يمتد الحديث عن رؤساء جنوب السودان إلى ما قبل الاستقلال، حين كانت المنطقة تتمتع بشبه حكم ذاتي في إطار السودان الموحد، وتحديداً بعد اتفاقية السلام الشامل في عام 2005. ومن هنا، يصبح فهم مسار الرئاسة في جنوب السودان مرتبطاً بالسياقات السياسية والتاريخية لما قبل الاستقلال وبعده. ويعد سلفاكير ميارديت هو الشخصية الأبرز في هذا السياق، إذ ارتبط اسمه بتأسيس الدولة، وقيادتها منذ بداياتها الأولى.
الخلفية التاريخية والسياسية للرئاسة في جنوب السودان
تعود جذور الرئاسة في جنوب السودان إلى المرحلة التي تلت توقيع اتفاقية نيفاشا (اتفاقية السلام الشامل) بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان في يناير 2005. هذه الاتفاقية أنهت واحدة من أطول الحروب الأهلية في أفريقيا، ومهدت الطريق لتكوين حكومة ذاتية انتقالية في جنوب السودان تحت قيادة الحركة الشعبية. كان زعيم الحركة حينها الدكتور جون قرنق دي مابيور، الذي أصبح أول رئيس للحكومة الانتقالية في جنوب السودان، ونائباً أول لرئيس جمهورية السودان. إلا أن وفاته المفاجئة في حادث تحطم مروحية في يوليو من العام نفسه، غيرت مجرى الأمور، حيث تولى نائبه سلفاكير ميارديت زمام القيادة.
1. جون قرنق دي مابيور (2005)
على الرغم من أن جون قرنق لم يكن رئيساً لدولة جنوب السودان المستقلة، إلا أن دوره التاريخي كزعيم للحركة الشعبية لتحرير السودان، وأول رئيس لحكومة جنوب السودان ذاتية الحكم، يجعله جزءاً محورياً في تاريخ الرئاسة بالجنوب. وقد لعب قرنق دوراً بارزاً في المفاوضات مع الحكومة السودانية التي قادت إلى اتفاقية نيفاشا.
كان قرنق شخصية كاريزمية وعسكرية بامتياز، يحمل درجة الدكتوراه في الاقتصاد الزراعي من الولايات المتحدة، وهو ما جعله يجمع بين الفكر الأكاديمي والخبرة الميدانية في العمل العسكري والسياسي. وقد حلم قرنق بدولة موحدة وعادلة، إلا أن القوى التي سادت بعد وفاته اتجهت نحو الانفصال، خاصة بعد تعمق الصراعات الدينية والثقافية والسياسية مع الشمال.
2. سلفاكير ميارديت (2005 – حتى اليوم)
يعد سلفاكير ميارديت أول رئيس لجمهورية جنوب السودان منذ إعلان الاستقلال في يوليو 2011، لكنه كان أيضاً الرئيس الثاني لحكومة جنوب السودان الانتقالية بعد وفاة جون قرنق في عام 2005. وهو من الشخصيات المحورية في مسيرة الدولة، وقائد بارز في الحركة الشعبية لتحرير السودان، وأحد أبرز الوجوه العسكرية والسياسية في المنطقة.
الخلفية الشخصية والعسكرية
سلفاكير ينتمي إلى قبيلة الدينكا، أكبر القبائل في جنوب السودان. بدأ حياته العسكرية في الحركة الشعبية لتحرير السودان منذ تأسيسها عام 1983، وأثبت كفاءته القيادية في ميادين القتال والإدارة العسكرية. ترقى في صفوف الحركة حتى أصبح نائباً لقرنق، ثم رئيساً بعد وفاته، حيث قاد عملية التحول السياسي التي انتهت بإجراء استفتاء تقرير المصير في يناير 2011، والذي صوت فيه أكثر من 98% من سكان الجنوب لصالح الاستقلال.
فترة الحكم بعد الاستقلال
تولى سلفاكير رئاسة الدولة منذ إعلانها رسمياً في 9 يوليو 2011، ومنذ ذلك الحين واجهت البلاد العديد من التحديات السياسية، والاقتصادية، والأمنية، كان أبرزها الحرب الأهلية التي اندلعت في ديسمبر 2013. فقد تفجرت النزاعات داخل صفوف القيادة السياسية، بعد اتهامه لنائبه آنذاك رياك مشار بمحاولة انقلاب، وهو ما أدى إلى انقسام سياسي خطير وحرب دموية خلفت مئات الآلاف من القتلى، وملايين من النازحين واللاجئين.
أدى هذا الانقسام إلى تعطيل مسيرة بناء الدولة، وعرقلة المشاريع التنموية، وتفاقم الأزمة الاقتصادية نتيجة انخفاض أسعار النفط، المورد الأساسي لميزانية الدولة. ورغم توقيع اتفاقيات سلام متكررة، مثل اتفاق عام 2015، ثم الاتفاق المنقح عام 2018، إلا أن حالة عدم الاستقرار السياسي لا تزال مستمرة.
تطور مؤسسة الرئاسة في ظل سلفاكير
من الناحية الهيكلية، حافظ سلفاكير على مركزية الرئاسة، وغالباً ما تم انتقاد أسلوبه في الحكم باعتباره مفرطاً في التركيز على السلطة التنفيذية. وتحت ضغط الاتفاقيات الدولية والمجتمع الإقليمي، تم تشكيل حكومات وحدة وطنية بمشاركة المعارضة، إلا أن هذه الحكومات كانت تعاني من هشاشة دائمة. وفي ظل تلك الظروف، أنشأ سلفاكير منصب “نائب أول للرئيس”، ثم تعددت مناصب النواب في إطار اتفاق تقاسم السلطة، لتصل أحياناً إلى خمسة نواب، من أجل استيعاب كافة التيارات السياسية والعسكرية.
وقد أدى هذا التوسع في مؤسسة الرئاسة إلى تضخم بيروقراطي وعدم فعالية في اتخاذ القرار، مما أعاق تحسين مستويات الحكم الرشيد والإدارة العامة في البلاد. وبدلاً من أن تسهم هذه الترتيبات في تعزيز الاستقرار، كانت أداة لإبقاء التوازن الهش بين القوى المتصارعة.
أبرز التحديات في عهد الرئاسة الحالية
-
الحرب الأهلية والانقسامات الإثنية: شكل الصراع بين سلفاكير ورياك مشار أحد أبرز التحديات، وأدى إلى تفاقم التوترات بين قبيلتي الدينكا والنوير، وهو ما غذى الانقسامات الإثنية والمجتمعية، وهدد بتفكك النسيج الوطني.
-
الفساد وسوء الإدارة: تشير تقارير دولية عديدة إلى تفشي الفساد في مفاصل الدولة، ونهب واسع لموارد النفط، في ظل ضعف مؤسسات الرقابة والمحاسبة.
-
غياب الخدمات الأساسية: لم تتمكن الحكومة من تقديم الخدمات الضرورية للمواطنين، مثل التعليم، والصحة، والمياه، والبنية التحتية، وهو ما عمّق معاناة السكان، خصوصاً في المناطق الريفية والبعيدة.
-
التدخلات الخارجية: تأثر جنوب السودان بسياسات دول الجوار والمجتمع الدولي، حيث لعبت دول مثل أوغندا، والسودان، وكينيا، وإثيوبيا، أدواراً مباشرة في الصراع، سواء بدعم فصائل محددة أو بالوساطة في اتفاقيات السلام.
الجدول الزمني لرؤساء جنوب السودان
| الاسم الكامل | الفترة الرئاسية | المنصب قبل الاستقلال | الخلفية الرئيسية |
|---|---|---|---|
| جون قرنق دي مابيور | يناير 2005 – يوليو 2005 | زعيم الحركة الشعبية | اقتصادي، عسكري، متمرد سابق |
| سلفاكير ميارديت | يوليو 2005 – حتى اليوم | نائب زعيم الحركة، رئيس بعد قرنق | عسكري، قائد سياسي |
منصب نائب الرئيس ودوره في الصراعات السياسية
يُعتبر منصب نائب الرئيس في جنوب السودان مفتاحاً لفهم البنية السياسية الهشة للدولة. ومنذ أن تولى رياك مشار هذا المنصب عقب اتفاق 2011، ثم استُبعد لاحقاً وعاد إليه بموجب اتفاقيات السلام، كان وجوده مرادفاً لحالة من عدم الاستقرار، نتيجة التوتر الشخصي والسياسي مع سلفاكير.
تولى مشار منصب النائب الأول عدة مرات، كان أبرزها بعد اتفاقية 2015، ثم بعد اتفاقية 2018 لتشكيل حكومة وحدة وطنية جديدة. غير أن الخلافات تكررت، وغالباً ما كانت تنتهي بمواجهات مسلحة. ويظهر من هذا أن الرئاسة في جنوب السودان لم تكن يوماً مؤسسة مستقرة، بل انعكاساً لصراع مصالح داخل النخبة السياسية والقبلية.
تقييم عام لأداء مؤسسة الرئاسة في جنوب السودان
يُعد النظام الرئاسي في جنوب السودان نظاماً مركزياً إلى حد كبير، مع تركيز السلطة في يد الرئيس، في ظل ضعف المؤسسات التشريعية والقضائية. وقد انعكس هذا في البطء الشديد في تنفيذ الإصلاحات السياسية والأمنية، وتعثر مسار العدالة الانتقالية، وغياب محاسبة حقيقية لمسؤولي الانتهاكات التي وقعت أثناء الحرب الأهلية.
وإذا كان سلفاكير يُحسب له الحفاظ على وحدة البلاد حتى الآن، وعدم انزلاقها إلى تفكك شامل، فإن الانتقادات له تتزايد بسبب طول بقائه في السلطة دون نتائج ملموسة على الأرض، مع انسداد الأفق السياسي، وتكرار الأزمات الاقتصادية والإنسانية.
الخلاصة
على الرغم من أن جنوب السودان لم يشهد تعدداً في رؤسائه منذ الاستقلال، إلا أن مؤسسة الرئاسة شهدت تقلبات سياسية حادة، وتحديات عميقة مرتبطة ببنية الدولة، والنزاعات الإثنية، وأداء النخبة الحاكمة. سلفاكير ميارديت، الذي قاد البلاد منذ نشأتها، يمثل استمرارية السلطة في سياق هش، إلا أن استمراريته لم تكن بالضرورة مصحوبة بالاستقرار أو التقدم التنموي، بل بالعكس، كانت سنوات حكمه شاهدة على واحدة من أسوأ الحروب الأهلية الحديثة.
إن تقييم مسار الرئاسة في جنوب السودان لا يمكن فصله عن السياق التاريخي لما بعد الاستعمار، والاضطرابات التي ميزت المنطقة لعقود، وكذلك عن طبيعة الحكم العسكري الممزوج بالمصالح القبلية. وما تزال البلاد بحاجة إلى إصلاحات عميقة وهيكلية تضمن تداولاً سلمياً للسلطة، وتحولاً ديمقراطياً حقيقياً، بما يعكس طموحات شعبها في السلام والتنمية والعدالة.
المراجع:
-
International Crisis Group, “South Sudan’s Civil War: Five Years of Ruin,” 2018.
-
Human Rights Watch, “South Sudan’s Leadership Fails to Deliver Peace,” 2021.
